- زواجه-صلى الله عليه وسلم- من عائشة:
يبدو أن العام الحادى عشر للبعثة يحمل بشرى جديدة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- فمع بشرى يثرب التى كانت تقدمة لدولة جديدة للمسلمين بالمدينة، صارت هناك بشرى أخرى، وهى زواجه -صلى الله عليه وسلم- فى شوال من هذه السنة بعائشة الصديقة بنت صاحبه أبى بكر، والتى كانت تقدمة لبداية جديدة لبيت النبوة بالمدينة. فقد بنى بها -صلى الله عليه وسلم- بعد ثلاث سنين فى شوال فى السنة الأولى من الهجرة.
--------------------------------------------------------------------------------
الدعوة خارج مكة(الجزء الثاني):
- الإسراء والمعراج:
ها هى البشارات تتوالى، والانتصارات تتعاقب فى دأب شديد! ولئن بدا الرسول -صلى الله عليه وسلم- مهزومًا فى عالم الشهادة، فلقد غدا منصورًا فى عالم الغيب، الجن تؤمن به -فى رحلة العودة من الطائف- حين كفر الناس، وأبواب السماء تفتح له، حين أغلقت فى وجهه أبواب الأرض. أسرى برسول الله -صلى الله عليه وسلم- بجسده من المسجد الحرام إلى بيت المقدس، راكبًا على البراق، بصحبة جبريل -عليه السلام-، وبالمسجد الأقصى حيث أبناء إبراهيم من ولده إسحاق -عليهم السلام-، صلى محمد بالأنبياء إمامًا وكأن ذلك إيذان بانتقال النبوة من ولد إسحاق إلى ولد إسماعيل -عليهما وعلى أبيهما السلام-، ثم عرج به -صلى الله عليه وسلم- إلى السماوات العلا حيث توالت رؤيته للآيات العجيبة، وأمام ربه -عز وجل- كان فرض الصلوات الخمس، فلما أصبح رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فى قومه أخبرهم بما أراه الله -عز وجل-، فكذبوه وآذوه، فساق لهم من دلائل صدقه ما يقنع عقولهم السقيمة، غير أنها لا تعمى الأبصار، ولكن تعمى القلوب التى فى الصدور.
- بيعة العقبة الأولى:
إن النبتة التى غرسها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بيده فى موسم الحج فى السنة الحادية عشرة للنبوة، قد اشتد عودها، حتى جاء فى الموسم التالى اثنا عشر رجلاً، خمسة من الستة الذين قابلوه فى العام الماضى، وسبعة جدد، جاءوا يبايعون الرسول -صلى الله عليه وسلم- عند العقبة بمنى، بيعة كبيعة النساء يوم فتح مكة -أى على الإيمان والطاعة-، دون حرب أو قتال، وقد بعث النبى -صلى الله عليه وسلم- معهم شابًا من السابقين إلى الإسلام هو مصعب بن عمير العبدرى؛ ليعلم من أسلم بيثرب شئون دينهم، ويدعو بها من لم يسلم بعد، وقد بارك الله فى سفارة مصعب، وكان يعرف بالمقرئ، وآمن بدعوته أسيد بن حضير، وسعد بن معاذ سيدا قومهما من بنى عبد الأشهل، وقصة إسلامهما تنبئ بحكمة مصعب ودماثة خلقه، وقد أقام مصعب فى دار أسعد بن زرارة يقوم بما انتدب له بجد وحماس حتى لم تبق دار من دور الأنصار إلا وفيها رجال ونساء مسلمون، إلا ما كان من دار أمية بن زيد، وخطمة، ووائل، فقد وقف بهم عن الإسلام قيس بن الأسلت الشاعر حتى عام الخندق العام الخامس للهجرة. ولم يأت العام المقبل: العام الثالث عشر للنبوة إلا ومصعب قد عاد إلى مكة، يزف إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بشائر الفوز، وبوارق الأمل، فى قبائل يثرب، وما بها من خير ومنعة.
- بيعة العقبة الثانية:
الله أكبر!! موسم الحجيج للعام الثالث عشر من النبوة يسفر عن غرس محمد -صلى الله عليه وسلم- وقد استغلظ واستوى على سوقه، وفد يثرب يقدم قاصدًا مكة وبين صفوفه ثلاثة وسبعون رجلاً وامرأتان ممن أسلم وآمن بالدين الجديد، لا ينهزهم إلا شوقهم للقيا نبى الله -صلى الله عليه وسلم-، ومبايعته على النصرة وتحت جناح الليل، وبعد مضى ثلثه الأول، كان التسلل خفية، للقاء الموعود، عند العقبة حيث الجمرة الأولى من منى، حسب الاتفاق المضروب، وبينا هم كذلك إذ طلع عليهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومعه العباس عمه -وهو بعد على دين قومه-، أما أبو بكر وعلى فقد وقف كل منهما عينًا على الطريق؛ لحراسة الاجتماع السرى، وقبل أن يسرد النبى -صلى الله عليه وسلم- بنود البيعة أكد العباس على خطورتها، وبعد أن سردها فقد كرر التأكيد على خطورة البيعة، الأنصاريان السابقان: العباس بن عبادة، وأسعد بن زرارة، لكن الأنصار الذين عرف الإسلام طريقه إلى قلوبهم، ما كادوا يستمعون إلى قولهما حتى بادروا إلى مصافحة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قائلين: والله لا نذر هذه البيعة، ولا نستقيلها. وبعد أن تمت البيعة، قام الأنصار تنفيذًا لطلب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- باختيار اثنى عشر نقيبًا، حتى إذا تمت البيعة، اكتشف شيطان المعاهدة فصاح على قريش يستفزهم، وسعت قريش لمطاردة المبايعين؛ لقتل حركة تعلم جيدًا شدة خطورتها، لكن الله سترهم، ولم تظفر قريش إلا بسعد بن عبادة الذى أجاره المطعم بن عدى، والحارث بن حرب بن أمية، فعاد سالمًا إلى ركبه، وعاد الجمع الميمون إلى المدينة ينشرون دعوة الله، ويهيئون يثرب لإقامة دولة الإسلام الأولى فى الأرض، ويستعدون لاستقبال المهاجرين، ونبيهم -صلى الله عليه وسلم-.
- الهجرة إلى يثرب:
كانت بيعة العقبة الثانية أخطر انتصار حققته الدعوة منذ ولادتها، فقد صار لها اليوم حصن ووطن، وسط صحراء العرب الواسعة، وكما أدرك هذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأسرع فى إرسال المسلمين إلى يثرب ليبادروا إلى تأسيس المجتمع الجديد بها، فإن قريشًا قد انتبهت لذلك أيضًا، فأخذت تحول بينهم وبين الهجرة، وفى ظل هذا المناخ القلق كان المسلمون يلوذون فرارًا إلى يثرب، لا يحملون معهم سوى إيمانهم بالله ويقينهم به، مخلفين وراءهم بيوتهم وأموالهم، وتجارتهم ومصالحهم، بل بعض أهليهم فى العديد من الأحيان. وإن هجرة كهجرة أبى سلمة وزوجته، وكهجرة صهيب الرومى، أو هجرة عياش بن أبى ربيعة، لتوضح لنا ما كان المسلمون يلاقونه من كيد قريش حتى يمنعوهم من الهجرة، لكن عناية الله ورحمته حالت دونهم وما يبغون، فما مضى بعد بيعة العقبة إلا شهران وبضعة أيام حتى لم يبق بمكة من المسلمين إلا رسول الله، وأبو بكر، وعلى -أقاما بأمره لهما-، ومن احتبسه المشركون كرهًا.